جريدة عمان
سالم بن حمد الجهوري
عايشت اللحظات التاريخية التي زار فيها جلالة السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – لمدرسة الوارث بن كعب بولاية السويق ، تلك الولاية التي تتوسد البحر وتتكئ على جبال الحجر الغربي ، وذلك يوم السبت 4 من ذي الحجة 1393هجرية الموافق 29 ديسمبر 1973م ، التي بقيت ملامح تفاصيلها عالقة في الذاكرة بعد 46 عاما من حدوثها وغيرت مفاهيم كبيرة في التعليم ، استنير بها والجيل الذي رافقني إلى أن رحل القائد الملهم تاركا تلك الذكرى تتجدد في عقولنا ، تتقد بين الحين والآخر لتمر كشريط ذكريات لا ينسى ، يحمل العديد من المعاني والمواقف التي كانت لنا الزاد والوقود لحياة حافة طيلة الخمسين عاما الماضية في كنف المربي والمعلم الأول لأبناء عمان الذين راهن عليهم منذ فجر النهضة في استعادة عمان لأمجادها التي وصفها يوما أنها كانت «ذا شأن عظيم».
كانت مدرسة الوارث بن كعب تقع على الطريق العام وتبعد قرابة 300 متر إلى الشمال من هذا الطريق، وتعد أولى المدارس التي أنشئت في الولاية، ولكن لم تكن في بداياتها في هذا الموقع ، بل كانت في موقع يختلف عن الموقع الحالي ، بحي البطحاء وكانت تبعد عنه بضعة كيلومترات ، استمرت لقرابة سنتين من 1970 إلى 1972، ثم انتقلت إلى المكان الجديد الذي لا يبعد كثيرا عن الشارع العام الذي كان ترابيا وقد بدأ مشروع رصفه تلك الأيام من مسقط إلى الحدود الشمالية للسلطنة.
المدرسة كان بها بضع مئات من الطلبة وقد استقبلت في بداياتها الطلبة الذين تتفاوت إمكانياتهم التعليمية التي تم ترفيع بعضهم لمستويات أعلى ليدخلوا إلى الصف الثاني مباشرة عند افتتاحها، فيما بقي الغالبية في الصف الأول الابتدائي ثم تم اختيار من تفوق بعد شهور من بداية العام للالتحاق بالصف الثاني واستمرت تلك المسيرة بالكوكبة نفسها من أبناء الولاية إلى الصف الثالث الإعدادي .
المدرسة بدأت ببعض الفصول في بيت قديم بني من الطين جزء منه وآخر بالأسمنت وكانت الفصول لا تتعدى أصابع اليد الواحدة حتى انتقلت إلى المكان الجديد لتستوعب أعدادا أكبر من أبناء الولاية كحال الولايات الأخرى في السلطنة.
طاقم المدرسة كان من الاساتذة الأجلاء بجمهورية مصر العربية ومديرها ممدوح عزمي وأستاذ الرياضيات سمير وأستاذ اللغة العربية خيري وأستاذ الاجتماعيات جلال وأستاذ اللغة الانجليزية وصفي والأستاذ شفيق إلى جانب كوكبة من الأساتذة العمانيين يأتي في مقدمتهم الأستاذ المربي محمد بن بطي القاسمي، والأستاذ جمعة بن راشد البلوشي الذي يشغل الآن رئيس المراسم السلطانية والأستاذ خميس بن بطي القاسمي والأستاذ علي الجوي والأستاذ صالح بن عبيد وهؤلاء من أوائل من التحقوا بهذه المدرسة.
توافد الطلبة إلى مدرسة الوارث كما توافد العديد من أبناء عمان على مدارسهم التي وضعها جلالة السلطان الراحل لبناء عمان وكانت لديه ثقة وبصيرة في أبناء عمان ليكونوا وقود تلك النهضة التي ينشدها ، وسيتبوأون المناصب القيادية التي يمكن أن تصنع فارقا في حياة الشعب العماني، وهذا ما حدث بعد كل هذه السنوات فتفوق وعيا وإدراكا وتفاعلا مع العالم ونجح في أن يسمع صوته للكون عبر منابر شتى ويكسب احترام الشعوب ويوجد فارقا مع الآخرين ويحظى بالسمعة والموثوقية .
فكان أكبر الأرصدة التي تركها الراحل تلك القيمة الإنسانية للعماني في العالم.
جاءت الزيارة التاريخية لجلالة السلطان الشاب في ذلك الوقت المتقد بالحماس والممزوج بهدوء الواثق إلى هذه المدرسة التي كان مثلها زيارات إلى عدد من المدارس في السلطنة ، في أجواء مشحونة بالحماس من جميع العمانيين الذين تطلعوا إلى عهد جديد يتيح لهم بناء دولة يستظلون تحت سمائها ، وسلطانا يرفع من قدرهم ومكانتهم بين الأمم، فتبلور هذا الحماس في شتى ميادين العمل وكان التعليم أهم الميادين.
في ذلك الصباح الشتوي توقفت سيارة « الرنج روفر» التي كان يتنقل بها بين أبنائه في ربوع عمان ذات التضاريس القاسية ، يتلمس احتياجاتهم الأولية لتأمين العيش الكريم ، أمام باب المدرسة المذكورة ، ليترجل منها مرتديا بزته العسكرية التي كانت توحي بحالة الطوارئ التي كانت في البلاد بسبب حرب الجنوب، وكان الجيش العماني يقارع فيها تلك الفئة المتمردة في غرب إقليم ظفار ، فقد كان منشغلا بها منذ مجيئه في الثالث والعشرين من يوليو 1970 إلى 1976م عندما أخمدت للأبد.
التقى هذا الزائر الاستثنائي عند مدخل الباب بمدير المدرسة الاستاذ ممدوح وبدأ متجولا فيها من الفصل الرابع الذي كان أعلى الفصول في ذلك الوقت ، وتفقد أحوال الطلبة وتحصيلهم المعرفي وتحاور معهم، وكان يضم كوكبة من أبناء الولاية من ضمنهم شقيقان لي إلى جانب بعضهم من الكفاءات اليوم.
ثم انتقل إلى الصف الثالث الذي كنت فيه، فكسر بدخوله المفاجئ أجواء حصة اللغة الانجليزية، ليسود الصمت الكبير فتحدث في البداية مع معلم الفصل الأستاذ وصفي ، ثم أخذ يتنقل بين الدارسين ويتجول بين طاولاتهم ، فكان كل ثلاثة منهم على طاولة خشبية واحدة ، وأخذ يتحدث مع معظم الذين مر عليهم حتى وصل إلى الطاولة التي كنت عليها، وكان برفقتي كل من الزميلين عبدالله بن صالح السعدي سفير السلطنة في الصين والطيار محمد بن حمدان الإسماعيلي قائد طائرة جلالة السلطان الراحل قبل عدة سنوات ، وآخرون من الذين تفخر بهم عمان اليوم ، تناول دفتر الواجب الذي رفعه من على الطاولة وكنت استرق النظر لمعرفة ردة فعله بعد قراءته بعضا مما كتبت، ثم أعاده ، كنت قلقا من عدم ارتياحه ، مرت لحظات صعبة للغاية إلا أنه أبدى بعض الرضى ليسألني إن كنت كتبت ذلك ، استمر في تجواله وسط سكون تام ، وكنا نجيل بأنظارنا في زوايا الفصل في انتظار شيء ما يحدث ، لا نسمع الا أنفاسنا.
كان في الفصل أحد المرافقين المدنيين وعسكريان يقفان بجانب بابي الفصل ، وكان قبلهم عدد من الجنود ينتشرون بأعداد قليلة خارج المدرسة ، لاحظناهم قبل وصول السلطان لكننا لم نكن نعرف من القادم، إلى جانب آخرين بعدد أقل في فناء المدرسة ، تنقل السلطان الراحل بين صفوف المدرسة وزار معظمها وأخذت جولته وقتا جيدا كما تفقد المرافق الخاصة بالمدرسة واطلع على العديد من التفاصيل والتقى بطاقم التدريس والعاملين من الإداريين وناقشهم في عدد من المواضيع.
ثم التقط صورا تذكارية في فناء المدرسة مع الطاقم التدريسي ، وظل العديد من زملاء الدراسة يحتفظون بها كل هذه المدة تعبيرا واعتزازا بتلك الزيارة الكريمة التي تعد واحدة من الزيارات النادرة جدا للمعلم الأول وملهم أبناء عمان طيلة الخمسين عاما الماضية ، بقيت في الذاكرة كوسم لزعيم لا تتكرر زياراته.
كانت الزيارة ذات تأثير طويل فقد بقيت محفوظة طيلة تلك السنوات، لم ينس أي منا تفاصيلها وتأثيرها رغم مشاغل الحياة ، بقيت كبصمة قربت بين ذلك الجيل وسلطانه واستطاعت أن تدفع بالحركة التعليمية إلى آفاق أبعد وأوجدت مناخا من الحماس والرغبة في تخطي التحديات التي واجهها أبناء عمان في مسيرتهم التعليمية التي أراد لها أن تكون في أفضل حال وعلى الدوام.
في سجل الشرف سجل السلطان الراحل تلك الكلمات التي سطر من خلالها مشاعره الدفاقة وإعجابه بهذه المدرسة الفتية التي بقيت خالدة تشع أحرفها نورا وحماسا وإشراقا وتعد وثيقة وعهدا ،جاء فيها :(لقد سرنا ما لمسناه من تقدم واجتهاد من قبل المعلم والمتعلم بهذه المدرسة الفتية والله يوفق الجميع دائما للنهوض بهذا البلد العزيز والسلام (السبت 4 من ذي الحجة 1393هجرية الموافق 29ديسمبر 1973م ) .
حملت كلمة جلالة السلطان في سجل الزيارات إعجابا وارتياحا بما لمسه من تقدم واجتهاد من قبل المعلم والمتعلم حيث لمس جلالة الراحل مدى الجهد الذي قام به طاقم المعلمين في المدرسة ، رغم التحديات والظروف وعكسوا أهمية الرسالة التعليمية المناطة بهم في إعداد أجيال المتعلمين الذين غرسوا النبتة الصالحة لوطن استطاع أن يستوعب الجميع في سنوات نهضته العامرة بالإنجازات .
كان لهذه الإشادة التي يراها الراحل مستحقة للطاقم التدريسي في المدرسة ، اثر بالغ ومهم على المسيرة التعليمية
وكذا بالمتعلمين من أبنائه الطلبة الذين بالتأكيد ناضلوا من اجل تهيئة أنفسهم للنهل من العلم والمعرفة المتجددة ، وهذا ما لمسه من خلال الوقوف بنفسه على الحصص التعليمية التي شاهدها خلال تلك الزيارة وما توقف عنده من مستوى متقدم للطلبة الذي استطاعوا بعد ذلك أن يشقوا طريقهم عبر مسارات الحياة إلى أعلى المراتب.
ولأن الطلبة لديهم ذلك الحماس والرغبة فقد كانوا خير من تعلم في تلك الحقبة وهم الذين شكلوا 80% من جهاز الدولة ، الذي استطاع أن يثبت أركانه في وقت قياسي بعناصر عمانية دون الاستعانة الدائمة ، طيلة العقود الثلاثة الماضية وهذا ما كان يراه جلالة السلطان الراحل في قراءاته الأولى لأبنائه وماذا كان يريد منهم في قادم الأيام ؟.
غادر السلطان مدرسة الوارث ، ميمما باتجاه شمال عمان ، ولم يغادر من ذاكرتنا التي اتسعت له طيلة حياته حتى لاقى ربه ، لم يغادر لأنه بقي في قلب كل طالب فينا وفي كل طلبة عمان الذين قابلوه والذين لم يحالفهم الحظ في ذلك ، لكنه بلا شك استطاع أن يبني فيهم وفينا جبالا من الحب والود والإخلاص والطمأنينة وأن يزرع فينا عشق عمان، وأن يرسم لنا مسارات خطى الحياة التي نسير عليها ونستنير بها في ظل السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- .
لم يغادرنا وسنبقى مسكونين به ولأجيالنا القادمة التي ستتذكر باعتزاز القائد الراحل.
الزيارة التي مررنا على تفاصيلها هدفت إلى عدة رسائل أراد السلطان الراحل أن يوصلها ، وأبرزها اهتمامه بالتعليم الذي يعتبره رهان بناء الدولة في قادم الأيام ، وإيمانه أن العلم هو من يستطيع أن يوجد ذلك التغيير على أرض السلطنة ، وكذا بث الهمم في نفوس الطلبة وتشجيعهم على بذل الجهد في تحصيل المعرفة ، ووضع التعليم في سلم الأولويات الذي عبر عنه في بداية النهضة من خلال خطاباته التي أكد انه « سيعلم أبناء السلطنة ولو تحت ظل الشجر» ولقد كان بالفعل ، حيث احتوى ظل الشجر فصولا عديدة في البدايات الأولى ليستفاد من الوقت حتى بناء المدارس الحديثة. وقد سيطر التعليم على فكر السلطان فتابع حالة التعليم بشغف خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي حتى افتتاح جامعة السلطان قابوس في عام 1986م .
بين الأمس واليوم في مسيرة التعليم ألف قصة وقصة يمكن أن تحكى للأجيال ، وأن يتعرف إليها الأبناء ، ويستفاد من عبرها وتحدياتها في بلد يعد موطنا للعلم والثقافة والحضارة والتاريخ ، في بلد يتعطش للمعرفة وهو الإرث الذي راهن عليه السلطان الراحل ، كونه يدرك أن ذلك لا يمكن أن يكون بالأماني ، فعمان التي ساهمت في الحضارة الإنسانية وأنارت دروب المعرفة خلال القرون الماضية عبر تلك الشخصيات التي استطاعت أن تكون منارات في شتى المعارف في الأدب والعلوم البحرية والفلكية والجغرافية والثقافية والدينية والسياسية ، قادرة على أن تنهض مرة أخرى ، وتستعيد قدرتها على التفاعل مع العالم ، وتستعيد مراتب التنوير بين الأمم فكان التعليم هو البوابة الكبيرة التي يمكن العبور منها إلى العالم .