جريدة عمان
العمانية: منذ بدايات عصر النهضة المباركة في السلطنة دأب السلطان الراحل قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- على التأكيد على أهمية العلم والمعرفة في بناء الحضارات وبناء الأمم والشعوب، لإيمانه الراسخ بأنه بالعلم والمعرفة يمكن للإنسان أن يسير نحو طريق المستقبل.
وما زال صوت السلطان -رحمه الله- وهو ينادي في العمانيين مطلع سبعينات القرن الماضي «سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر» يتردد صداه في كل مكان، بل إنّ ذلك الصدى المقدس بقداسة العلم نشر خيوط إشعاعه من عُمان إلى العالم.
ولأن السلطان الراحل كان مؤمنا بأن المعرفة الإنسانية ليست محددة بإطار مكاني وزماني، وأن الفكر الحقيقي فكر متجدد جاءت مبادراته، رحمه الله، بإنشاء كراس علمية في مختلف الجامعات المرموقة في العالم بهدف تشجيع البحث العلمي وتشجيع الابتكار. لتتحقق فكرة أن السلطان قابوس صاحب رسالة إنسانية ليست لعُمان فقط وإنما يعم نورها العالم أجمع.
وتقليدُ الكراسي العلمية تقليدٌ قديمٌ يعود إلى مرحلة عصر النهضة في إنجلترا بالذات، وكان التقليد في ذلك الوقت يقضي بأن تقوم نخبة المجتمع وساسته وكبار نبلائه بتقديم جوائز مالية لقاء الإنجازات العلمية المهمة للأفراد، لكن الأمر تطور لاحقًا ليكون مرتبة بحثية تُمْنح للعلماء والباحثين المُجيدين. وتبلور الأمر لتكون الكراسي العلمية عبارةً عن برامج أكاديمية تُنشأ في الجامعات بهدف البحث العلمي والتدريس الأكاديمي، ولكل كرسي أكاديمي أستاذ يشرف عليه يكون عادة من بين الأساتذة الذين لهم رصيد علمي معروف في الأبحاث والدراسات. وكل كرسي علمي ممول يقوم بتمويل البحوث والدراسات التي يسندها الكرسي للباحثين، وتتيح الجامعات لممولي الكراسي باختيار توجهات البحوث ومجالاتها.
ولجلالة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- (16) ستة عشر كرسيًا علميًا وأستاذية وزمالة في عدد من جامعات العالم، تخدم في مجملها البحوث العلمية في مجالات اللغة العربية والأدب والثقافة والتاريخ والعلوم والحوار الديني والحضاري.
ويُعدّ كرسي سلطان عُمان في الأدب العربي والإسلامي بجامعة جورج تاون الأمريكية الذي أنشئ عام (1980م) أقدم هذه الكراسي والأستاذيات والزمالات. ويتولى مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم بديوان البلاط السلطاني مهمة الإشراف على كراسي وأستاذيات وزمالات السلطان قابوس العلمية التي تهدف إلى التعريف بالثقافة العُمانية ونشرها، وتوثيق الروابط وأوجه التعاون مع المؤسسات الثقافية والعلمية في دول العالم، دعمًا للتواصل العلمي والحضاري والفكري، الذي من شأنه ترسيخ المبادئ والقيم المشتركة وتعزيز التفاهم والتعايش والسلم في العالم أجمع.
ومن أبرز المهام المنوطة بهذه الكراسي هو القيام بإجراء دراسات وبحوث مختلفة حسب مجالاتها المتعددة، والإشراف على طلبة دراسات عُليا (ماجستير ودكتوراه) في المجالات المتخصصة فيها، إضافة إلى عقد الندوات والمؤتمرات وحلقات العمل العلمية.
وبتعدد مجالات كراسي وأستاذيات وزمالات السلطان قابوس العلمية تتعدد الأهداف العلمية والبحثية لكلٍ منها، ففي مجال الدراسات العربية والإسلامية تم إنشاء كرسيين علميين في جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأمريكية وهما «كرسي سلطان عُمان في الأدب العربي والإسلامي» عام (1980م) و«كرسي السلطان قابوس بن سعيد للغة العربية» عام (1993م)، وفي أستراليا تم إنشاء كرسي «سلطان عُمان للدراسات العربية والإســلامية» بجامعة ملبورن عام (2003م)، وفي المملكة المتحدة تم إنشاء «زمالة السلطان قابوس بن سعيد الدولية» في مجال الأدب والدراسات الإسلامية والاجتماعية في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية بجامعة أكسفورد عام (2004م) و«كرسي صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد للدراسات العربية المعاصرة» في جامعة كامبردج عام (2005م)، وفي جمهورية الصين الشعبية تم إنشاء «كرسي السلطان قابوس لدراسات اللغـــة العربية» في جامعة بكين عام (2007 م)، وذلك لتحقيق عددٍ من الأهداف أهمها: التعريف بالأدب العربي والإسلامي للمجتمعات غير العربية، وتقديم مساهمة متميزة في تدريس اللغة العربية وتطوير الدراسات الإسلامية وتشجيع البحوث المرتبطة بهما خاصة ذات الصلة بعُمان، والمساعدة في تدعيم المكتبات الخاصة بأقسام اللغة العربية في هذه الجامعات بمصادر تُسهم في رفع الوعي باللغة العربية وآدابها.
أما في مجال الديانات الإبراهيمية والدراسات الشرقية فقد تم إنشاء «كرسي سلطان عُمان للدراسات الشرقية» بجامعة لايدن بمملكة نذرلاندز عام (2008م)، و«كرسي السلطان قابوس للدراسات الشرق أوسطية» بجامعة طوكيو اليابانية عام (2010م)، وفي عام (2011م) تم إنشاء كل من «أستاذية جلالة السلطان قابوس للديانات الإبراهيمية والقيم المشتركة» في جامعة كامبردج بالمملكة المتحدة، و«أستاذية السلطان قابوس لدراسات الشرق الأوسط» في كلية وليام وماري بالولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بهدف التدريس وإجراء البحوث في مجال الدراسات الشرقية في الجوانب التاريخية والثقافية والحضارية، وكذلك المساهمة في تطوير المعرفة والتفاهم في مجال دراسة الديانات الإبراهيمية وقيمها المشتركة في ظل التحديات المعاصرة.
وفي مجال العلاقات الدولية تم في عام 1999م إنشاء «كرسي سلطان عُمان في العلاقات الدولية» بجامعة هارفارد الأمريكية وكان ذلك في أعقاب حصول السلطان الراحل على جائزة السلام الدولية. ويهدف الكرسي إلى ترسيخ وإشاعة منهج الحوار البنّاء ومفاهيم السلام وحسن الجوار المستمدة من فكر الراحل ليكون منطلقًا لتطوير مفاهيم العلاقات الدولية المعاصرة، بعيدًا عن العنف والكراهية والتمييز.
وهناك كرسيّان علميّان للسلطان قابوس معنيّان بالجوانب التقنية في جمهورية باكستان الإسلامية، تم إنشاء الكرسي الأول «كرسي السلطان قابوس لتقنية المعلومات» في جامعة الهندسة والتكنولوجيا بلاهور عام 2004م والكرسي الثاني «كرسي السلطان قابوس لتقنية المعلومات» في جامعة نيد للهندسة والتكنولوجيا بكراتشي عام 2005م، وذلك بهدف تشجيع البحوث التقنية ورفع مستوى التخصصات العلمية في مجال تقنية المعلومات وتدعيم أقسام الجامعتين بالأجهزة الإلكترونية الحديثة ووسائل الاتصال المتطورة وربطها مع المؤسسات التعليمية العالمية في إطار التبادل المعرفي.
وفي مجال المياه تم إنشاء كرسيّين علميّين للسلطان في كل من جامعة الخليج العربي بمملكة البحرين عام 1994م وحمل الأول اسم «كرسي صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد للاستزراع الصحراوي»، وفي جامعة أُترخت بمملكة نذرلاندز عام 2005م حمل الثاني اسم «كرسي السلطان قابوس للإدارة الكمية للمياه» وذلك بهدف إجراء البحوث ذات العلاقة بالإدارة المثلى للمياه، للمساهمة في التنويع الاقتصادي والتنمية في السلطنة وفي مختلف دول العالم.
ومن أجل تقديم السلطنة مساهمةً مهمةً لتطوير المعرفة في مجال الرياضيات وفق المستويات العالمية، وتعزيز التعاون المشترك وانتقال وانسياب المعلومات بين الدول والمؤسسات العلمية في هذا المجال، وإبراز مساهمات السلطنة في الدراسات المتعلقة بالعلوم التطبيقية وخاصة الرياضيات، استنادًا إلى رؤية السلطان الراحل -طيب الله ثراه-، فقد أنشئت في عام 2014م «زمالة السلطان قابوس للرياضيات» بكلية كوربوس كريستي في جامعة كامبردج بالمملكة المتحدة.
وبهدف تشجيع التعاون العلمي بين كراسي وأُستاذيات وزمالات السُّلطان قابوس العلمية والمؤسسات العلمية والبحثية العُمانية، وتسليط الضوء على الأنشطة والبرامج التي تقوم بها وإسهاماتها المختلفة في المجالات المعنية بها، يتم عقد ندوات لكراسي السلطان قابوس العلمية، حيث تم حتى الآن عقد ثلاث ندوات علمية كانت الأولى في جامعة السُّلطان قابوس بمسقط عام (2010م)، وذلك تحت عنوان «كراسيّ جلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المعظم العلمية وإسهاماتها في تنمية المعرفة الإنسانية» وأُقيمت الندوة الثانية في جامعة كامبردج بالمملكة المتحدة في عام (2012م)، وكانت بعنوان «إسهامات رائدة في دراسات الشرق الأوسط»، وفي عام (2014م) استضافت جامعة طوكيو باليابان الندوة الثالثة تحت عنوان «إدارة موارد المياه لتنمية مستدامة» وذلك وسط اهتمام رسمي وأكاديمي كبيرين.
كما يقوم مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم بعقد لقاءات دورية لأساتذة كراسي السلطان قابوس العلمية في مسقط بهدف تعظيم الفائدة للسلطنة من هذه الكراسي وذلك بربط أساتذة الكراسي بنظرائهم في المؤسسات العُمانية وفتح قنوات تواصل بينهم لتبادل الخبرات والأفكار والآراء فيما بينهم وتعزيز التعاون الأكاديمي والبحثي بين الكراسي العلمية فيما بينها وكذلك مع المؤسسات العُمانية من خلال إقامة مشروعات تعاون مشتركة، ولتعريفهم بالسلطنة من خلال اطّلاعهم على المعالم التاريخية والحضارية لها والتقائهم بعدد من المسؤولين.
وقد ساهمت كراسي السلطان قابوس العلمية بمشروعات بحثية أسهمت في تطوير المعرفة في جامعات تلك الدول، وتعاقد معها عدد من الوزارات والجهات المحلية للاستفادة من تلك البحوث، كما عملت الكراسي على إنجاز نتاجات مهمة في إثراء العلاقات بين الأمم والحضارات واللغات، ويسهم أساتذة كراسي السلطان قابوس العلمية في إصدار كتب ونشر الكثير من المقالات البارزة في عدد من المجلات العلمية المحكمة، وقامت بعض الكراسي برفد عدد من المؤسسات العُمانية بخبراتها في تنفيذ عدد من المشروعات ومن تلك المؤسسات وزارة البلديات الإقليمية وموارد المياه ومجلس البحث العلمي وجامعة السلطان قابوس وغيرها، كما تقوم العديد من الجامعات العالمية بدعوة أساتذة الكراسي لإلقاء محاضرات والمشاركة في المؤتمرات التي تعقدها.
ويستذكر العالم اليوم «السلطان قابوس بن سعيد، -طيب الله ثراه»، وكيف أنه أفنى حياته في خدمة العلم والمعرفة ولم يدّخر جهدًا في سبيل ذلك. ولذا، يكون اسمه جديرًا بأن يُضاف إلى قائمة عظماء الإنسانية الذين قدموا خدمات جليلة للمعرفة الإنسانية بدعم القائمين عليها.