جريدة الرؤية
الرؤية - مدرين المكتومية
يقول محمد حسنين هيكل إنّ "وقائع التاريخ الكبرى عائمات جليد، طرفها ظاهر فوق الماء، وكتلتها الرئيسية تحت سطحه، ومن يريد استكشافها عليه أن يغوص"، وفي ظل ما يموج بالعالم من حولنا من متغيرات ثقافية وفكرية، يتعين على جميع المؤسسات ولاسيما التربوية منها، تعريف الشباب وأفراد المجتمع من الأجيال الجديدة بالتاريخ العماني التليد، ليس فقط فيما يتعلق بالتواريخ المحفوظة، أو تحديد المواقع، وإنما أيضا قراءة واستيعاب ما وراء هذا التاريخ من معانٍ وعبر تساعد الأجيال الشابة على التدبر من الماضي وأخذ العظة وفهم الحقائق التاريخية، في ظل ما يحاك ضدها من أعمال متعمدة تستهدف تشويهه أو النيل منه.
وتحدّث متخصصون وباحثون في التاريخ إلى "الرؤية" عن أهمية إعادة صياغة مناهج التاريخ العمانية وتقديمها في صورة تساعد الطالب على فهم التاريخ فهما عميقا بدلا من عمليات الحفظ والتلقين التي يقوم بها الطلبة من أجل الحصول على درجات تساعدهم في رفع المجموع النهائي لهم.
وقال الدكتور إسماعيل بن أحمد بن هارون الزدجالي الباحث في التاريخ إنّ تدريس التاريخ يعد ركيزة أساسية لكل أمة تريد ان تنشئ جيلا واعيا يسير بها نحو آفاق التقدم والازدهار فمن ليس له ماض ليس له حاضر ولا مستقبل.
وأكد ضرورة أنّه من هذا المنطلق تولي وزارة التربية والتعليم اهتماما متزايدا بتدريس مادة الدراسات الاجتماعية كمادة أساسية في كافة المراحل الدراسية، وضمنتها العديد من الدروس في العديد من المواضيع التاريخية التي تناولت التاريخ العماني والتاريخ العربي والإسلامي، وكذلك تاريخ العالم، إضافة إلى وجود مادة التربية الوطنية التي ركزت على غرس العديد من القيم العمانية لدى الطلاب.
لكن الزدجالي عبر عن أسفه من أن الآونة الأخيرة تشهد تراجعا كبيرا في الاهتمام بتدريس مادة التاريخ، حيث يتم تدريس مادة الدراسات الاجتماعية اعتبارا من الصف الثالث الابتدائي وذلك بعد ان كان مقررا منذ التحاق الطالب بالدراسة في الصف الأول الابتدائي، كما أصبحت دراسة المادة اختيارية لطلاب الصفوف الحادي عشر والثاني عشر وهذا ما خلق جيلا ليس لديه وعي ومعرفة بالكثير من الأحداث التاريخية الحاسمة سواء في التاريخ العماني أو التاريخ الإسلامي على حد سواء، إضافة إلى عدم المعرفة بالقيم والعادات العمانية التي ميّزت الشخصية العمانية وأكسبتها موضع احترام وتقدير على مستوى العالم.
ودعا الزدجالي إلى تكثيف تدريس مادة التاريخ وتكوين فريق عمل مختص يتم فيه إشراك جميع المعنيين والمختصين في التاريخ ويتولى مهمة إعداد منهج متكامل يتم تدريسه وتوزيع موضوعاته على كافة المراحل الدراسية، إضافة إلى العمل على إعداد الطالب الباحث في التاريخ وتزويده بأحدث المناهج والأدوات اللازمة لخلق جيل من الباحثين. وحث كذلك على العمل على التعريف بالقيم العمانية من خلال إقامة البرامج والندوات في جميع المدارس العمانية خاصة في مرحلة التعليم الأساسي لغرس القيم في الناشئة منذ الصغر، وذلك بإشراف من مجلس التعليم لما يشكله الموضوع من أهمية قصوى مع وجوب وجود مقرر يتناول التاريخ العماني والحضارة الإسلامية ويكون إلزاميا لجميع الطلبة الملتحقين بالتعليم العالي في السلطنة على اختلاف تخصصاتهم وذلك أسوة بجامعة السلطان قابوس لما لذلك من أهمية في صقل مخرجاتها، والتي ستعود بمردودها في رفع المستوى الثقافي لخريجيها وإعداد جيل معتز بتاريخه ومتمسك بهويته وقيمه وعاداته العمانية الأصيلة، فما يحز في النفس أن نجد العديد من خريجي تلك المؤسسات لا يعرفون ما يُعتبر أساسياً في تاريخنا العماني مثل اسم مؤسس دولة اليعاربة ودولة البوسعيد.
وقال محمد بن خلفان العاصمي مدير لجنة التربية والبحث العلمي بمجلس الشورى إنّ تعزيز قيم الولاء والانتماء والمواطنة أصبح مهما في زمن الانفجار المعرفي والتسارع التقني والثورة المعلوماتية التي جعلت العالم قرية صغيرة وأضحى تصدير الثقافات أمراً واقعاً لا مجال لتجنبه إلا من خلال الوعي والإدراك الحقيقي لما حولنا والتسلّح بالمعرفة والتعليم الجيد.
وأضاف أنّ هذا الأمر من أبرز أدوار المؤسسة التعليمية؛ حيث يجب على هذه المؤسسة أن تعد الفرد لمواجهة كل هذه التحديات من خلال إخراج فرد يمتلك الوعي والمعرفة ويتسلح بالقيم المثلى لمواجهة هذه التيارات الفكرية المتسارعة والمتغيّرة.
وتابع أنّه بالنظر لما تقدمه هذه المؤسسة في وقتنا الحاضر خصوصاً فيما يتعلق بالتاريخ، فإنّ الفكر حول هذا العنصر ما زال منصباً على المنظور الزمني البعيد وما زال ينقلنا باتجاه واحد وهو النظر للحضارة من خلال البعد الزمني القديم والمتمثل في ما تركه الأجداد منذ مئات السنين وحتى آلاف السنين وبالتأكيد هذا أمر مهم للتعرف على العراقة التي يمتلكها هذا الشعب ولكن التاريخ بمنظوره الحديث يتشكل في كل لحظة تمضي فالأمس يصبح تاريخاً بعد أن يمضي يتساوى مع كل ما سبقه ولذلك يجب أن ينال هذا الجانب حقه من البحث والدراسة والطرح.
ومضى العاصمي موضحا أننا ما زلنا لا نرى بوضوح حقبة مهمة من تاريخنا المعاصر وهي تلك الفترة التي نقلت الوطن من مرحلة الى مرحلة أخرى مزدهرة؛ حيث تغفل مناهجنا عن تناول بدايات وتحديات مشروع بناء النهضة المباركة، وكيف قامت الدولة العمانية العصرية وكيف كانت البداية في هذا المشروع والتحديات التي واجهتها وماذا بذل لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم.
كل ذلك غائب عن مناهجنا وإن وجد فهو لا يلبي حاجات وتساؤلات الجيل الحالي الذي لا يكتفي بالمعرفة المجردة بل يرغب بمعرفة الكثير من التفاصيل حول أي أمر.
ويرى العاصمي أنّ الجانب المهم في دراسة هذه المرحلة يتمثل في غرس قيم الانتماء والولاء لهذه الأرض وقائدها والوعي بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الوطن أرضاً وأفراداً والشعور بالمشاركة في عملية البناء والتنمية والارتباط المصيري بهذا الوطن. وأوضح أن دراسة الحضارات الأخرى أمر مهم، لكن الأهم دراسة تاريخ هذا الوطن القديم والحديث والتركيز على تنشئة أجيال تمتلك وعياً بقيمة هذا التراب وكيف وصل لهذه المرحلة من التقدم والازدهار هذا الأمر سيعود بالنفع للوطن في المستقبل عندما يكون لدينا جيل يدرك ويعي أهمية الوطن.
وقال سعيد بن محمد بن علي المحرزي مشرف أول كيمياء بدائرة الإشراف التربوي بوزارة التربية والتعليم إنّ دراسة التاريخ أمر بالغ الأهمية، ويجب الحرص بشكل كبير عند تناوله ويجب استقاؤه من مصادره الموثوقة وتمحيصه وتنقيحه بشكل جيد وتقديمه بصورة تجعل منه على قدر عال من الأهمية للدارس، إضافة إلى مقاربته مع الواقع ومتطلبات المرحلة الحالية والمستقبلية.
وأضاف: "عندما ننظر للعالم من حولنا ندرك أهميّة ذلك فالتيارات الفكرية والأيديولوجيات المؤثرة في عقول الناشئة أصبحت تعمل بتخطيط وتنظيم يستهدف تشكيل وعي سلبي اتجاه الأوطان وتقديمه بصورة قاتمة لدى الجيل تظهره بمظهر الضعف والظلم والفساد والتخلف مما يجعله صغيراً في أعينهم وليس ذا قيمة ويمكن التنازل عنه في أي لحظة والتضحية به في أول خيار". وشدد على دور التعليم في مواجهة ذلك من خلال تقديم معرفة مرتبطة بتعزيز قيم الانتماء والولاء للوطن.
وبين المحرزي أنّ تاريخ أي أمة يسهم بدور فاعل في نهضتها وتقدمها، ويتحقق ذلك فقط حينما يتم الاستفادة من نقاط القوة في ذلك التاريخ، وهنا يتضح الدور المهم الذي يمكن للمناهج الدراسية أن تقوم به في سبر أغوار التاريخ لبيان وتحليل نقاط القوة والضعف فيه وتعريف الأجيال بها، حتى تتمكن هذه الأجيال من الانطلاق نحو البناء والتعمير، وعندما تتأمل مناهج التاريخ لدينا نجد أن هناك تناولا للتاريخ العماني من عدة زوايا.
ويرى أنّ طريقة عرض ومناقشة مناهج التاريخ العماني غير كافية وغير شاملة، على الرغم من أنّ التاريخ العماني يحفل بجوانب مضيئة في كل التخصصات والمجالات الاقتصادية والفنية والسياسية والبحرية والحرفية والعلمية والفقهية والرياضية، لكن مع الأسف لم تتناول كتب التاريخ هذه الجوانب بشكل كاف ومتسلسل في مختلف المراحل الدراسية وبما يكفل تعريف الطالب العماني بتاريخه بوعي وإدراك.
وتابع القول: إنّ كتب التاريخ تتناول الشخصيات التاريخية العمانية والإسهامات التاريخية العمانية الحضارية دون غوص في أعماق هذه الشخصيات، وبدون دراسة تحليلية لها، كما أن طريقة عرض أحداث التاريخ العماني تحتاج إلى ملمس فني وتشويقي للطالب حتى يكون أكثر رغبة في دراستها بل واستلهام القيم منها حتى تكون دافعا له في تكملة المسير.
وأكّد المحرزي أن الربط بين الحاضر والمستقبل مع الماضي من الأمور المهمة جدا والتي ينبغي على المؤسسات التربوية بكافة مراحلها أن تتناوله مع طلابها من خلال المقررات الدراسية والأنشطة الطلابية والمسابقات المتنوعة، ونركز هنا على المناهج الدراسية لأنّها توفر إطارا مرجعيا للطلاب، داعيا إلى التدرج في تناول المناهج لأحداث التاريخ العماني بكافة جوانبه الثقافية والعلمية والسياسية والطبية والصناعية والبحرية، مع أهميّة توظيف التقنية والتكنولوجيا، والاستفادة من المتاحف العمانية المختلفة في دعم تدريس مادة التاريخ العماني بطريقة تقنية احترافية.
وحثّ المحرزي على أهميّة التركيز على الجوانب الإيجابية في التاريخ واستخلاص عناصر القوة فيه بجانب دراسة مواطن الضعف وكيفية التغلب عليها وسبل الوقاية منها، إلى جانب الاستفادة من هذا التاريخ في دعم قيم المواطنة والولاء من خلال تجسيد الأحداث التاريخية في سيناريوهات ودراما فنية يقوم الطلاب بتمثيلها وإنتاجها في المؤسسات التعليمية فهذا يعمل على إيصال المعني التاريخي للطلاب بسهولة ويسر.
من جهتها، قالت أمل بنت طالب الجهورية باحثة إعلامية أولى بلجنة الإعلام والثقافة بمجلس الشورى إنّ دراسة التاريخ جزء مهم من المناهج الدراسية في مدارسنا، لكن في مرحلة كهذه والعالم يشهد تغيرا متسارعا في معطياته وصراعا في أحداثه بسبب تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، فإنّ دراسة العموميات الخاصة بالتاريخ العماني في منهاجنا لم تعد مجدية، فنحن اليوم بحاجة لمزيد من التخصصية وتعميق الفكر والمضمون لدى النشء وربطه بتفاصيل تاريخه الذي يعد أحد مكونات هويته ووطنيته.
وأضافت: "نحتاج اليوم إلى التركيز على المواطنة الرقمية التي من شأنها أن تحقق الكثير من المكاسب في ترجمة أهداف الانتماء الوطني، وتعزيز قيم المواطنة، والتي يحضر التاريخ العماني فيها كجزء أصيل"، داعية إلى التوسع في تدريس التاريخ بمستوياته ومجالاته المختلفة والتأكيد على عالميّة الكثير منه اليوم والمسجل في المنظمات الدولية. وبيّنت أنه يمكن للمشتغلين على تطوير تدريس التاريخ العماني أن يحرروا الكثير من مضامين ذلك التاريخ عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة واستثمارها كجانب معزز للأهداف التربوية من تدريس التاريخ لدى الطلاب في مدارسنا.